.تفسير الآية رقم (27):
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [15/ 85] وَفِي آخِرِ سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} الْآيَةَ [23/ 115].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}. الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ، ذَلِكَ أَيْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَاطِلًا هُوَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِنَا، وَالنَّفْيُ فِي قَوْلِهِ مَا خَلَقْنَا، مُنْصَبٌّ عَلَى الْحَالِ لَا عَلَى عَامِلِهَا الَّذِي هُوَ خَلَقْنَا، لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ بِأَدَاةِ النَّفْيِ الَّتِي هِيَ مَا: لَيْسَ خَلْقَهُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ، وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ بِهَا، هُوَ كَوْنُهُ بَاطِلًا، فَهِيَ حَالٌ شِبْهُ الْعُمْدَةِ وَلَيْسَتْ فَضْلَةً صَرِيحَةً؛ لِأَنَّ النَّفْيَ مُنْصَبٌّ عَلَيْهَا هِيَ خَاصَّةً، وَالْكَلَامُ لَا يَصِحُّ دُونَهَا. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ، وَنَفْيُ كَوْنِ خَلْقِهِ تَعَالَى لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَاطِلًا نَزَّهَ عَنْهُ نَفْسَهُ وَنَزَّهَهُ عَنْهُ عِبَادُهُ الصَّالِحُونَ، لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ تَعَالَى.أَمَّا تَنْزِيهُهُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [23/ 115].ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ، عَنْ كَوْنِهِ خَلَقَهُمْ عَبَثًا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [23/ 116] أَيْ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ كَوْنِهِ خَلَقَهُمْ عَبَثًا.وَأَمَّا تَنْزِيهُ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ سُبْحَانَكَ أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ، عَنْ أَنْ تَكُونَ خَلَقْتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَاطِلًا. فَقَوْلُهُمْ سُبْحَانَكَ تَنْزِيهٌ لَهُ، كَمَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} الْآيَةَ [23/ 116].وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ ظَنَّ بِاللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَلَهُ النَّارُ.وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَنْ ظَنَّ بِاللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ أَرْدَاهُ وَجَعَلَهُ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَجَعَلَ النَّارَ مَثْوَاهُ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} الْآيَةَ [41/ 22- 24].وَقَوْلُنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْمَبْحَثِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [17/ 9]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ الْفِعْلَ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا الْفِعْلُ الْحَقِيقِيُّ، وَالثَّانِي الْفِعْلُ الصِّنَاعِيُّ، أَمَّا الْفِعْلُ الْحَقِيقِيُّ، فَهُوَ الْحَدَثُ الْمُتَجَدِّدُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ بِالْمَصْدَرِ.وَأَمَّا الْفِعْلُ الصِّنَاعِيُّ، فَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي صِنَاعَةِ عِلْمِ النَّحْوِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَفِعْلِ الْأَمْرِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ عَنِ الْمُضَارِعِ.وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفِعْلَ الصِّنَاعِيَّ يَنْحَلُّ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:الْمَصْدَرُ اسْمُ مَا سِوَى الزَّمَانِ مِنْ مَدْلُولَيِ الْفِعْلِ كَأَمْنٍ مِنْ أَمِنْ وَعِنْدَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْبَلَاغِيِّينَ، أَنَّهُ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ، وَزَمَنٍ وَنِسْبَةٍ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ، كَمَا حَرَّرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ فِي مَبْحَثِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الْمَصْدَرَ وَالزَّمَنَ كَامِنَانِ فِي الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ، فَيَصِحُّ رُجُوعُ الْإِشَارَةِ وَالضَّمِيرِ إِلَى كُلٍّ مِنَ الْمَصْدَرِ وَالزَّمَنِ الْكَامِنَيْنِ فِي الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ.فَمِثَالُ رُجُوعِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي الْفِعْلِ، قَوْلُهُ هُنَا: ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ، فَإِنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي هُوَ الْخَلْقُ كَامِنٌ فِي الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ، الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ أَيْ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ الْمَذْكُورُ الْكَامِنُ فِي مَفْهُومِ خَلْقِنَا ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا.وَمِثَالُ رُجُوعِ الْإِشَارَةِ إِلَى الزَّمَنِ الْكَامِنِ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ، قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [50/ 20] أَيْ ذَلِكَ الزَّمَنُ الْكَامِنُ فِي الْفِعْلِ هُوَ يَوْمُ الْوَعِيدِ.وَمِثَالُ رُجُوعِ الضَّمِيرِ لِلْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [5/ 8] فَقَوْلُهُ: هُوَ، أَيِ الْعَدْلُ الْكَامِنُ فِي مَفْهُومٍ اعْدِلُوا، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
.تفسير الآية رقم (28):
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}. أَمْ فِي قَوْلِهِ:
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ} وَقَوْلُهُ:
{أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ} كِلْتَاهُمَا، مُنْقَطِعَةٌ وَأَمِ الْمُنْقَطِعَةُ، فِيهَا لِعُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ:الْأَوَّلُ: أَنَّهَا بِمَعْنَى هَمْزَةِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ.الثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى بَلِ الْإِضْرَابِيَّةِ.وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَشْمَلُ مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالْإِضْرَابِ مَعًا، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ.وَعَلَيْهِ فَالْإِضْرَابُ بِهَا هُنَا انْتِقَالِيٌّ لَا إِبْطَالِيٌّ وَوَجْهُ الْإِنْكَارِ بِهَا عَلَيْهِمْ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ مَنْ ظَنَّ بِاللَّهِ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ، أَنَّهُ يُسَاوِي بَيْنَ الصَّالِحِ الْمُصْلِحِ، وَالْمُفْسِدِ الْفَاجِرِ، فَقَدْ ظَنَّ ظَنًّا قَبِيحًا جَدِيرًا بِالْإِنْكَارِ.وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى، فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَمَّ حُكْمَ مَنْ يَحْكُمُ بِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [45/ 21].
.تفسير الآية رقم (29):
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}. قَوْلُهُ تَعَالَى:
{كِتَابٌ} خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هَذَا كِتَابٌ، وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ، مُعَظِّمًا نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا، بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَأَنَّهُ كِتَابٌ مُبَارَكٌ وَأَنَّ مِنْ حُكْمِ إِنْزَالِهِ أَنْ يَتَدَبَّرَ النَّاسَ آيَاتِهِ، أَيْ يَتَفَهَّمُوهَا وَيَتَعَقَّلُوهَا وَيُمْعِنُوا النَّظَرَ فِيهَا، حَتَّى يَفْهَمُوا مَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْهُدَى، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ، أَيْ يَتَّعِظَ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، مِنْ شَوَائِبَ الِاخْتِلَالِ.وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَ وَاضِحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ.أَمَّا كَوْنُهُ جَلَّ وَعَلَا، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [97/ 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [44/ 3] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [3/ 7]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْكِتَابِ مُبَارَكًا، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} الْآيَةَ [6/ 92]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [6/ 155]. وَالْمُبَارَكُ كَثِيرُ الْبَرَكَاتِ، مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.وَنَرْجُو اللَّهَ الْقَرِيبَ الْمُجِيبَ، إِذْ وَفَّقَنَا لِخِدْمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، أَنْ يَجْعَلَنَا مُبَارَكِينَ أَيْنَمَا كُنَّا، وَأَنْ يُبَارِكَ لَنَا وَعَلَيْنَا، وَأَنْ يَشْمَلَنَا بِبَرَكَاتِهِ الْعَظِيمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ إِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ، الَّذِينَ يَأْتَمِرُونَ بِأَوَامِرِهِ بِالْبَرَكَاتِ وَالْخَيِّرَاتِ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.وَأَمَّا كَوْنُ تُدَبِّرُ آيَاتِهِ، مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ: فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ، بِالتَّحْضِيضِ عَلَى تَدَبُّرِهِ، وَتَوْبِيخِ مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [47/ 24]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [4/ 82] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [23/ 68].وَأَمَّا كَوْنُ تَذَكُّرِ أُولِي الْأَلْبَابِ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، مُقْتَرِنًا بِبَعْضِ الْحِكَمِ الْأُخْرَى، الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ فِي آيَةِ ص هَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ:
{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [14/ 52] فَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ تَذَكُّرَ أُولِي الْأَلْبَابِ، مَنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ مُبَيِّنًا مِنْهَا حِكْمَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، مَنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ، وَهُمَا إِنْذَارُ النَّاسِ بِهِ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَوْنُ إِنْذَارِ النَّاسِ وَتَذَكُّرُ أُولِي الْأَلْبَابِ، مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ، ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [7/ 1- 2] لِأَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ، مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: أُنْزِلَ، وَالذِّكْرَى اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ، وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الْآيَةِ لَا يَخْفَى أَنَّهُمْ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ.وَذِكْرُ حِكْمَةِ الْإِنْذَارِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ:
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [25/ 1].وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [6/ 19]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} الْآيَةَ [36/ 5- 6]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} الْآيَةَ [36/ 70].وَذُكِرَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ، الْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ مَعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [19/ 97]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} الْآيَةَ [18/ 1- 2].وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ أَنْ يُبَيِّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَلِأَجْلِ أَنْ يَتَفَكَّرُوا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [16/ 44].وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا كَوْنَ لَعَلَّ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، وَذِكْرَ حِكْمَةِ التَّبْيِينِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ حِكْمَةِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [16/ 64].وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ، تَثْبِيتُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْهُدَى وَالْبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [16/ 102].وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ، إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [4/ 105].وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ أَيْ بِمَا عَلَّمَكَ مِنَ الْعُلُومِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} الْآيَةَ [42/ 52]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [12/ 3].وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ إِخْرَاجَ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} الْآيَةَ [14/ 1].وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ التَّذْكِرَةَ لِمَنْ يَخْشَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [20/ 1- 3] أَيْ: مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى.وَهَذَا الْقَصْرُ عَلَى التَّذْكِرَةِ إِضَافِيٌّ، وَكَذَلِكَ الْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا:
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} الْآيَةَ [16/ 64]، بِدَلِيلِ الْحِكَمِ الْأُخْرَى الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَتَصْرِيفِ اللَّهِ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ أَنْ يَتَّقِيَ النَّاسُ اللَّهَ، أَوْ يُحْدِثَ لَهُمْ هَذَا الْكِتَابُ ذِكْرًا، أَيْ مَوْعِظَةً وَتَذَكُّرًا، يَهْدِيَهِمْ إِلَى الْحَقِّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [20/ 113] وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ}. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ وَهَبَ سُلَيْمَانَ لِدَاوُدَ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ وَرِثَ الْمَوْهُوبَ لَهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [27/ 16].وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا:
{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} الْآيَةَ [19/ 5- 6] أَنَّهَا وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ لَا وِرَاثَةُ مَالٍ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا}. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَعَلَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا، مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَا يَخْفَى سُقُوطُهَا، وَأَنَّهَا لَا تَلِيقُ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [18/ 23- 24]. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ السَّلَفِ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ، أَنَّ الشَّيْطَانَ أَخَذَ خَاتَمَ سُلَيْمَانَ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَطَرَدَ سُلَيْمَانَ إِلَى آخِرِهِ يُوَضِّحُ بُطْلَانَهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [15/ 42] وَاعْتِرَافُ الشَّيْطَانِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [15/ 40].
.تفسير الآية رقم (36):
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُوَضَّحًا بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} الْآيَةَ [21/ 81].وَفَسَّرْنَا هُنَاكَ قَوْلَهُ هُنَا حَيْثُ أَصَابَ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَوْجُهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ هُنَا: رُخَاءً، وَقَوْلِهِ هُنَاكَ:
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} [21/ 81] وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَيْضًا بَيْنَ عُمُومِ الْجِهَاتِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ هُنَا: حَيْثُ أَصَابَ أَيْ: حَيْثُ أَرَادَ وَبَيْنَ خُصُوصِ الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَاكَ فِي قَوْلِهِ:
{تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} الْآيَةَ [21/ 81].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [21/ 82].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} إِلَى قَوْلِهِ:
{لِأُولِي الْأَلْبَابِ} قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مَعَ التَّعَرُّضِ لِإِزَالَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} إِلَى قَوْلِهِ:
{وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ}. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا، نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنْ يَذْكُرَ عَبْدَهُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ الذِّكْرَ بِكَوْنِهِ فِي الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} الْآيَةَ [19/ 41].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ}. أَطْلَقَ هُنَا أَيْضًا الْأَمْرَ بِذِكْرِ إِسْمَاعِيلَ وَقَيَّدَهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ بِكَوْنِهِ فِي الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} الْآيَةَ [19/ 54]، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ أَيْضًا بِذِكْرِ جَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْكِتَابِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ ذِكْرُهُمْ كُلُّهُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَمَا لَا يَخْفَى.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ، فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} [37/ 48].
.تفسير الآية رقم (54):
{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ، لَا نَفَادَ لَهُ، أَيْ: لَا انْقِطَاعَ لَهُ وَلَا زَوَالَ، ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ:
{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [11/ 108]وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [16/ 96].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}. قَدْ قَدَّمْنَا مَا يُوَضِّحُهُ، مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} الْآيَةَ [2/ 166]، وَذَكَرْنَا بَعْضَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} الْآيَةَ [7/ 38] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}.قَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، مَعَ بَعْضِ الْمَبَاحِثِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [2/ 34].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَذَكَرْنَا الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْآيَاتِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ:
{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} الْآيَةَ [11/ 29].
.تفسير الآية رقم (88):
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}. الْحِينُ الْمَذْكُورُ هُنَا، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [15/ 99].وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحِينُ الْمَذْكُورُ هُنَا، هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ تَتَبَيَّنُ لَهُ حَقَائِقُ الْهُدَى وَالضَّلَالِ.وَاللَّامُ فِي لِتَعْلَمُنَّ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَقَدْ أَكَّدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ نَبَأَ الْقُرْآنِ أَيْ صِدْقَهُ، وَصِحَّةَ جَمِيعِ مَا فِيهِ بَعْدَ حِينٍ بِالْقَسَمِ، وَنُونِ التَّوْكِيدِ.وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ، قَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى، فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [6/ 66- 67].قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ، أَيْ: لِكُلِّ خَبَرٍ حَقِيقَةٌ وَوُقُوعٌ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا تَبَيَّنَ صِدْقُهُ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا تَبَيَّنَ كَذِبُهُ، وَسَتَعْلَمُونَ صِدْقَ هَذَا الْقُرْآنِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.
.سُورَةُ الزُّمَرِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
.تفسير الآية رقم (1):
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. قَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا، إِذَا ذَكَّرَ تَنْزِيلَهُ لِكِتَابِهِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَعْضِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، الْمُتَضَمِّنَةِ صِفَاتَهُ الْعُلْيَا.فَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، لَمَّا ذَكَرَ تَنْزِيلَهُ كِتَابَهُ، بَيَّنَ أَنَّ مَبْدَأَ تَنْزِيلِهِ كَائِنٌ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا، وَذَكَرَ اسْمَهُ اللَّهَ، وَاسْمَهُ الْعَزِيزَ، وَالْحَكِيمَ، وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [45/ 1- 3]، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} الْآيَةَ [46/ 1- 3].وَقَدْ تَكَرَّرَ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ، ذِكْرُهُ بَعْضَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، بَعْدَ ذِكْرِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ حم:
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [40/ 1- 3] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ فُصَّلَتْ:
{حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [41/ 1- 2]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هُودٍ:
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [11/ 1] وَقَوْلِهِ فِي فُصِّلَتْ:
{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [41/ 41- 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ يس:
{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [36/ 5- 6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} الْآيَةَ [26/ 192- 193]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} الْآيَةَ [69/ 43- 44].وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَهُ جَلَّ وَعَلَا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى الْعَظِيمَةَ، بَعْدَ ذِكْرِهِ تَنْزِيلَ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، يَدُلُّ بِإِيضَاحٍ، عَلَى عَظَمَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَجَلَالَةِ شَأْنِهِ وَأَهَمِّيَّةِ نُزُولِهِ،وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنْ يَعْبُدَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ، مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَيْ مُخْلِصًا لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ صَغِيَرِهَا وَكَبِيرِهَا، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ.وَالْإِخْلَاصُ، إِفْرَادُ الْمَعْبُودِ بِالْقَصْدِ، فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِالتَّقَرُّبِ بِهِ إِلَيْهِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَوْنِ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَابُدَّ مِنْهُ، جَاءَ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا، أَنَّهُ مَا أَمَرَ بِعِبَادَةٍ، إِلَّا عِبَادَةً يُخْلِصُ لَهُ الْعَابِدُ فِيهَا.أَمَّا غَيْرُ الْمُخْلِصِ فَكُلُّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ، جَاءَ بِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، لَا بِأَمْرِ رَبِّهِ، قَالَ تَعَالَى:
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الْآيَةَ [98/ 5]، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [39/ 14، 15].وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّهُ لَابُدَّ فِيهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} الْآيَةَ. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
.تفسير الآيات (2-3):
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)}:وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ أَيِ: التَّوْحِيدُ الصَّافِي مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ، أَيْ: هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ وَحْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ.وَقَوْلُ مِنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ الْخَالِصِ كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، بَيَّنَ شُبْهَةَ الْكُفَّارِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا لِلْإِشْرَاكِ بِهِ تَعَالَى، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مَا عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، إِلَّا لِأَجْلِ أَنْ تُقَرِّبَهُمْ مِنَ اللَّهِ زُلْفَى، وَالزُّلْفَى: الْقَرَابَةُ.فَقَوْلُهُ: زُلْفَى، مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ لِيُقَرِّبُونَا، أَيْ لِيُقَرِّبُونَا إِلَيْهِ قَرَابَةً تَنْفَعُنَا بِشَفَاعَتِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ.وَلِذَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكْ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [6/ 35] أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنِ ادِّعَاءِ الشُّفَعَاءِ، وَاتِّخَاذِ الْمَعْبُودَاتِ مَنْ دُونِ اللَّهِ وَسَائِطَ مَنْ أَصُولِ كُفْرِ الْكُفَّارِ.وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا:
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [10/ 18].فَصَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ، مِنِ ادِّعَاءِ الشُّفَعَاءِ شِرْكٌ بِاللَّهِ، وَنَزَّهَ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ عَنْهُ، بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي آيَةِ الزُّمَرِ هَذِهِ؛ لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لِمَا قَالَ عَنْهُمْ:
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [39/ 3] أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [39/ 3].وَقَوْلُهُ:
{كَفَّارٌ} صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى جَامِعُونَ بِذَلِكَ، بَيْنَ الْكَذِبِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْكُفْرِ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِهَذَا زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي سُورَةِ النَّاسِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةَ، بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [16/ 57].